فصل: تفسير الآيات رقم (12- 16)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الخازن المسمى بـ «لباب التأويل في معاني التنزيل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 16‏]‏

‏{‏أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى ‏(‏12‏)‏ وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى ‏(‏13‏)‏ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ‏(‏14‏)‏ عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ‏(‏15‏)‏ إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏أفتمارونه على ما يرى‏}‏ يعني أفتجادلونه على ما يرى وذلك أنهم جادلوه حين أسري به وقالوا له صف لنا بيت المقدس وأخبرنا عن عيرنا في الطريق وغير ذلك مما جادلوه به‏.‏ والمعنى‏:‏ أفتجادلونه جدالاً ترومون به دفعه عما رآه وعلمه ‏{‏ولقد رآه نزلة أخرى‏}‏ يعني رأى جبريل في صورته التي خلق عليها نازلاً من السماء نزلة أخرى وذلك أنه رآه في صورته مرتين مرة في الأرض ومرة عند سدرة المنتهى ‏(‏م‏)‏ عن أبي هريرة ولقد رآه نزلة أخرى قال‏:‏ رأى جبريل‏.‏ وعلى قول ابن عباس‏:‏ يعني نزلة أخرى هو أنه كانت للنبي صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة عرجات لمسألة التخفيف من أعداد الصلوات فيكون لكل عرجة نزلة فرأى ربه عز وجل في بعضها‏.‏

وروي عن ابن عباس أنه رأى ربه بفؤاده مرتين وعنه أنه رآه بعينه ‏{‏عند سدرة المنتهى‏}‏ ‏(‏م‏)‏ عن ابن مسعود رضي الله عنه قال‏:‏ «لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السادسة وإليها ينتهي ما يعرج من الأرض فيقبض منها وإليها ينتهي ما يهبط من فوقها فيقبض منها وقال إذ يغشى السدرة ما يغشى قال فراش من ذهب»‏.‏

وفي رواية الترمذي إليها ينتهي علم الخلائق لا علم لهم فوق ذلك وفي حديث المعراج المخرج في الصحيحين «ثم صعد بي إلى السماء السابعة ثم قال ثم رفعت إلى سدرة المنتهى» فإذا نبقها مثل قلال هجر وإذا ورقها كآذان الفيلة قال‏:‏ هذه سدرة المنتهى‏.‏ وفي أفراد مسلم من حديث أنس قال‏:‏ «ثم عرج بنا إلى السماء السابعة وذكره إلى أن قال فيه ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى وإذا ورقها كآذان الفيلة وإذا ثمرها كالقلال قال فلما غشيها من نور الله ما غشي تغيرت فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها» وقال هلال بن يساف سأل ابن عباس كعباً عن سدرة المنتهى وأنا حاضر فقال كعب إنها سدرة في أصل العرش على رؤوس حملة العرش وإليها ينتهي علم الخلائق وما خلفها غيب لا يعلمه إلا الله عز وجل وعن أسماء بنت أبي بكر قالت‏:‏ «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر سدرة المنتهى فقال‏:‏ يسير الراكب في ظل الفنن منها مائة سنة أو قال يستظل بظلها مائة ألف راكب فيها فراش الذهب كأن ثمرها القلال» أخرجه الترمذي‏.‏ وقال‏:‏ مقاتل هي شجرة تحمل الحلي والحلل والثمار من جميع الألوان ولو أن ورقة وضعت منها في الأرض لأضاءت لأهل الأرض وهي شجرة طوبى التي ذكرها الله في سورة الرعد ‏{‏عندها جنة المأوى‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ جنة المأوى يأوي إليها جبريل والملائكة وقيل‏:‏ يأوي إليها أرواح الشهداء ‏{‏إذ يغشى السدرة ما يغشى‏}‏ قال ابن مسعود‏:‏ فراش من ذهب وقيل‏:‏ يغشاها ملائكة أمثال الغربان‏.‏ وقيل‏:‏ أمثال الطيور حتى يقعن عليها‏.‏ وقيل‏:‏ غشيها نور الخلاق وغشيتها الملائكة من حب الله تعالى أمثال الغربان حتى يقعن عليها وقيل‏:‏ هو نور رب العزة ويروى في الحديث قال‏:‏ رأيت على كل ورقة منها ملكاً قائماً يسبح الله عز وجل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 19‏]‏

‏{‏مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ‏(‏17‏)‏ لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ‏(‏18‏)‏ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏ما زاغ البصر وما طغى‏}‏ يعني ما مال بصر النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المقام وفي تلك الحضرة المقدسة الشريفة يميناً وشمالاً ولا جاوز ما رأى وقيل‏:‏ ما أمر به وهذا وصف أدبه صلى الله عليه وسلم في ذلك المقام الشريف إذ لم يلتفت إلى شيء سوى ما أمر به‏.‏

وفي معنى الآية إن قلنا إن الذي يغشى السدرة فراش من ذهب أي لم يلتفت إليه ولم يشتغل به وفيه بيان أدبه صلى الله عليه وسلم إذ لم يقطع بصره عن المقصود وإن قلنا الذي يغشى السدرة هو نور رب العزة ففيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم لم يلتفت عنه يمنة ولا يسرة ولا يشتغل بغير مطالعة ذلك النور‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ ما زاغ البصر بصعقة ولا غشية كما أخبر عن موسى بقوله ‏{‏وخر موسى صعقاً‏}‏ وذلك أنه لما تجلى رب العزة وظهر نوره على الجبل قطع نظره وغشي عليه ونبينا صلى الله عليه وسلم ثبت في ذلك المقام العظيم الذي تحار فيه العقول وتزل فيه الأقدام وتميل فيه الأبصار فوصف الله عز وجل قوة نبينا صلى الله عليه وسلم في ذلك المقام العظيم بقوله تعالى ما زاغ البصر وما طغى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد رأى من آيات ربه الكبرى‏}‏ يعني رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم الآيات العظام وقيل‏:‏ أراد ما رأى تلك الليلة في مسيره ورجوعه وقيل‏:‏ معناه لقد رأى من آيات ربه الآيات الكبرى ‏(‏م‏)‏ عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ لقد رأى من آيات ربه الكبرى‏.‏ قال‏:‏ رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح ‏(‏خ‏)‏ عنه قال لقد رأى من آيات ربه الكبرى قال رأى رفرفاً أخضر سد أفق السماء‏.‏

‏(‏فصل من كلام الشيخ محيي الدين النووي في معنى قوله تعالى ‏{‏ولقد رآه نزلة أخرى‏}‏ وهل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل ليلة الإسراء‏)‏

قال القاضي عياض اختلف السلف والخلف هل رأى نبينا صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء فأنكرته عائشة كما وقع في صحيح مسلم‏.‏ وجاء مثله عن أبي هريرة وجماعة وهو المشهور عن ابن مسعود وإليه ذهب جماعة من المحدثين والمتكلمين‏.‏

وروي عن ابن عباس أنه رآه بعينه ومثله عن أبي ذر وكعب والحسن وكان يحلف على ذلك وحكي مثله عن ابن مسعود وأبي هريرة وأحمد بن حنبل وحكى أصحاب المقالات عن أبي الحسن الأشعري وجماعة من أصحابه أنه رآه ووقف بعض مشايخنا في هذا وقال‏:‏ ليس عليه دليل واضح ولكنه جائز ورؤية الله عز وجل في الدنيا جائزة وسؤال موسى إياها دليل على جوازها إذ لا يجهل نبي ما يجوز أن يمتنع على ربه‏.‏

واختلفوا في أن نبينا صلى الله عليه وسلم هل كلم ربه ليلة الإسراء بغير واسطة أم لا، فحكي عن الأشعري وقوم من المتكلمين أنه كلمه‏.‏ وعزا بعضهم هذا القول إلى جعفر بن محمد وابن مسعود وابن عباس وكذلك اختلفوا في قوله‏:‏ ثم دنا فتدلى فالأكثر على أن هذا الدنو والتدلي منقسم بين جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم أو مختص بأحدهما من الآخر أو من سدرة المنتهى‏.‏

وذكر ابن عباس والحسن ومحمد بن كعب وجعفر بن محمد وغيرهم أنه دنو من النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه أو من الله فعلى هذا القول يكون الدنو والتدلي متأولاً ليس على وجهه بل كما قال جعفر بن محمد الدنو من الله لا حد له ومن العباد بالحدود فيكون معنى دنو النبي صلى الله عليه وسلم وقربه منه ظهور عظيم منزلته لديه وإشراق أنوار معرفته عليه واطلاعه من غيبه وأسرار ملكوته على ما لم يطلع سواه عليه‏.‏ والدنو من الله تعالى له إظهار ذلك وعظيم بره وفضله العظيم لديه ويكون قوله تعالى‏:‏ قاب قوسين أو أدنى، هنا عبارة عن لطف المحل وإيضاح المعرفة والإشراف على الحقيقة من نبينا صلى الله عليه وسلم ومن الله تعالى إجابة الرغبة وإبانة المنزلة هذا آخر كلام القاضي عياض‏.‏

قال الشيخ محيي الدين‏:‏ وأما صاحب التحرير فإنه اختار إثبات الرؤية‏.‏ قال‏:‏ والحجج في المسألة وإن كانت كثيرة ولكن لا تتمسك إلا بالأقوى منها وهو حديث ابن عباس‏:‏ «أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين» وعن عكرمة قال‏:‏ سئل ابن عباس هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ وقد روي بإسناد لا بأس به عن شعبة عن قتادة عن أنس قال‏:‏ رأى محمد ربه عز وجل وكان الحسن يحلف لقد رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل‏.‏

والأصل في المسألة حديث ابن عباس حبر هذه الأمة وعالمها والمرجوع إليه في المعضلات وقد راجعه ابن عمر في هذه المسألة وراسله هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل فأخبره أنه رآه ولا يقدح في هذا حديث عائشة لأن عائشة لم تخبر أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ لم أر ربي وإنما ذكرت ما ذكرت متأولة لقول الله تعالى ‏{‏وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً‏}‏ ولقوله ‏{‏لا تدركه الأبصار‏}‏ والصحابي إذا قال قولاً وخالفه غيره منهم لم يكن قوله حجة وإذا قد صحت الروايات عن ابن عباس أنه تكلم في هذه المسألة بإثبات الرؤية وجب المصير إلى إثباتها لأنها ليست مما يدرك بالعقل ويؤخذ بالظن وإنما يتلقى بالسمع ولا يتسجيز أحد أن يظن بابن عباس أنه تكلم في هذه المسألة بالظن والاجتهاد وقد قال معمر بن راشد حين ذكر اختلاف عائشة وابن عباس ما عائشة عندنا بأعلم من ابن عباس ثم إن ابن عباس أثبت ما نفاه غيره والمثبت مقدم على النفي هذا كلام صاحب التحرير في إثبات الرؤية‏.‏

قال الشيخ محيي الدين فالحاصل أن الراجح عند أكثر العلماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه عز وجل بعيني رأسه ليلة الإسراء لحديث ابن عباس وغيره مما تقدم وإثبات هذا لا يأخذونه إلا بالسماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا مما لا ينبغي أن يتشكك فيه ثم إن عائشة لم تنف الرؤية بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان معها حديث لذكرته وإنما اعتمدت على الاستنباط من الآيات وسنوضح الجواب عنها فنقول‏:‏ أما احتجاج عائشة رضي الله تعالى عنها بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تدركه الأبصار‏}‏ فجوابه ظاهر، فإن الإدراك هو الإحاطة والله تعالى لا يحاط به وإذا ورد النص بنفي الإحاطة لا يلزم منه نفي الرؤية بغير إحاطة وهذا الجواب في نهاية الحسن مع اختصاره‏.‏ وأما احتجاجها بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً‏}‏ الآية، فالجواب عنه من أوجه‏:‏ أحدها أنه لا يلزم مع الرؤية وجود الكلام حال الرؤية فيجوز وجود الرؤية من غير كلام، الوجه الثاني‏:‏ أنه عام مخصوص بما تقدم من الأدلة‏.‏

الوجه الثالث‏:‏ ما قاله بعض العلماء إن المراد بالوحي الكلام من غير واسطة وهذا القول وإن كان محتملاً لكن الجمهور‏.‏

على أن المراد بالوحي هنا إلهام والرؤية في المنام وكلاهما يسمى وحياً وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو من وراء حجاب‏}‏ فقال الواحدي وغيره معناه غير مجاهر لهم بالكلام بل يسمعون كلامه سبحانه من حديث لا يرونه وليس المراد أن هناك حجاباً يفصل موضعاً عن موضع ويدل على تحديد المحجوب فهو بمنزلة ما يسمع من وراء حجاب حيث لم ير المتكلم وقول عائشة في أول الحديث «لقد قف شعري» فمعناه قام شعري من الفزع لكوني سمعت ما لا ينبغي أن يقال تقول العرب عند إنكار الشيء‏:‏ قف شعري واقشعر جلدي واشمأزت نفسي وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر «نور أني أراه» فهو بتنوين نور وبفتح الهمزة في أني وتشديد النون المفتوحة ومعناه‏:‏ حجابه نور فكيف أراه قال الماوردي الضمير في أراه عائد على الله تعالى والمعنى أن النور يمنعني من الرؤية كما جرت العادة بإغشاء الأنوار الأبصار ومنعها من إدراك ما حال بين الرائي وبينه وفي رواية رأيت نوراً معناه‏:‏ رأيت النور فحسب ولم أر غيره وفي رواية ذاته نور أني أراه ومعناه هو خالق النور المانع من رؤيته فيكون من صفات الأفعال ومن المستحيل أن تكون ذات الله نوراً إذ النور من جملة الأجسام والله يتعالى عن ذلك هذا مذهب جميع أئمة المسلمين والله أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 23‏]‏

‏{‏وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى ‏(‏20‏)‏ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى ‏(‏21‏)‏ تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى ‏(‏22‏)‏ إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏ومناة‏}‏ قيل‏:‏ هي لخزاعة كانت بقديد وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها في الأنصار كانوا يهلون لمناة وكانت حذو قديد وقيل‏:‏ هي بيت بالمشلل كانت تعبده بنو كعب‏.‏ وقيل‏:‏ مناة، صنم لهذيل وخزاعة وكانت تعبدها أهل مكة وقيل‏:‏ اللات والعزى ومناة أصنام من الحجارة كانت في جوف الكعبة يعبدونها ‏{‏الثالثة الأخرى‏}‏ الثالثة نعت لمناة إذ هي الثالثة في الذكر وأما الأخرى فإن العرب لا تقول الثالثة الأخرى وإنما الأخرى هنا نعت للثلاثة قال الخليل‏:‏ قالها لوفاق رؤوس الآي كقوله ‏{‏مآرب أخرى‏}‏ ولم يقل أخر‏.‏

وقيل‏:‏ في الآية تقديم وتأخير تقديره أفرأيتم اللات والعزى الأخرى ومناة الثالثة‏.‏

وقيل‏:‏ هي صفة ذم كأنه تعالى قال ومناة الثالثة المتأخرة الذليلة‏.‏ فعلى هذا فالأصنام ترتب مراتب، وذلك لأن اللات كان صنماً على صورة آدمي والعزّى شجرة فهي نبات ومناة صخرة فهي جماد وهي في أخريات المراتب‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ هل رأيتم هذه الأصنام حق الرؤية، وإذا رأيتموها علمتم أنها لا تصلح للعبادة لأنها لا تضر ولا تنفع وقيل‏:‏ أفرأيتم أيها الزاعمون أن اللات والعزى ومناة بنات الله ألكم الذكر وله الأنثى‏.‏ وقيل‏:‏ كان المشركون بمكة يقولون‏:‏ الأصنام والملائكة بنات الله وكان الرجل منهم إذا بشر بالأنثى كره ذلك فقال الله عز وجل منكراً عليهم ‏{‏ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذاً قسمة ضيزى‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أي قسمة جائرة حيث جعلتم لربكم ما تكرهون لأنفسكم وقيل‏:‏ قسمة عوجاء غير معتدلة ‏{‏إن هي‏}‏ أي ما هذه الأصنام ‏{‏إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم‏}‏ والمعنى‏:‏ أنكم سميتموها آلهة وليست حقيقة ولا بمعبودة حقيقة وقيل‏:‏ معناه قلتم لبعضها عزى ولا عزة لها فلا يكون لها مسمى حقيقة‏.‏

‏{‏ما أنزل الله بها من سلطان‏}‏ أي حجة بما تقولون إنها آلهة ‏{‏إن يتبعون إلا الظن‏}‏ أي في قولهن إنها آلهة ‏{‏وما تهوى الأنفس‏}‏ يعني هو ما زين لهم الشيطان من عبادة الأصنام وقيل‏:‏ وضعوا عبادتهم بمقتضى شهواتهم والذي ينبغي أن تكون العبادة بمقتضى الشرع لا بمتابعة هوى النفس ‏{‏ولقد جاءهم من ربهم الهدى‏}‏ أي البيان بالكتاب المنزل والنبي المرسل أن الأصنام ليست بآلهة وأن العبادة لا تصلح إلا لله الواحد القهار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 30‏]‏

‏{‏أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى ‏(‏24‏)‏ فَلِلَّهِ الْآَخِرَةُ وَالْأُولَى ‏(‏25‏)‏ وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى ‏(‏26‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى ‏(‏27‏)‏ وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ‏(‏28‏)‏ فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ‏(‏29‏)‏ ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏أم للإنسان ما تمنى‏}‏ معناه أيظن الكافر أن له ما يتمنى ويشتهي من شفاعة الأصنام أي ليس الأمر كما يظن ويتمنى ‏{‏فلله الآخرة والأولى‏}‏ أي لا يملك أحد فيها شيئاً أبداً إلا بإذنه وقيل‏:‏ معناه أن الإنسان إذا اختار معبوداً على ما تمناه واشتهاه فلله الآخرة والأولى يعاقبه على فعله ذلك إن شاء في الدنيا والآخرة وإن شاء أمهله إلى الآخرة ‏{‏وكم من ملك في السموات‏}‏ أي ممن يعبدهم هؤلاء ويرجون شفاعتهم عند الله ‏{‏لا تغني شفاعتهم شيئاً‏}‏ يعني أن الملائكة، مع علو منزلتهم، لا تغني شفاعتهم، شيئاً فكيف تشفع الأصنام مع حقارتها ثم أخبر أن الشفاعة لا تكون إلا بإذنه فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إلا من بعد أن يأذن الله‏}‏ أي في الشفاعة ‏{‏لمن يشاء ويرضى‏}‏ أي من أهل التوحيد قال ابن عباس يريد لا تشفع الملائكة إلا لمن رضي الله عنه وقيل‏:‏ إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء من الملائكة في الشفاعة لمن شاء الشفاعة له ‏{‏إن الذين لا يؤمنون بالآخرة‏}‏ يعني الكفار الذين أنكروا البعث ‏{‏ليسمون الملائكة تسمية الأنثى‏}‏ أي بتسمية الأنثى حيث قالوا إنهم بنات الله‏.‏ فإن قلت كيف قال تسمية الأنثى ولم يقل تسمية الإناث‏.‏

قلت المراد منه بيان الجنس وهذا اللفظ أليق بهذا الموضع لمناسبته رؤوس الآي وقيل‏:‏ إن كل واحد من الملائكة يسمونه تسمية الأنثى وذلك لأنهم إذا قالوا الملائكة بنات الله فقد سموا كل واحد منهم بنتاً وهي تسمية الأنثى ‏{‏وما لهم به من علم‏}‏ يعني بالله فيشركون به ويجعلون له ولداً وقيل‏:‏ ما يستيقنون أن الملائكة أناث ‏{‏إن يتبعون إلا الظن‏}‏ يعني في تسمية الملائكة بالإناث ‏{‏وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً‏}‏ يعني لا يقوم الظن مقام العلم الذي هو الحق وقيل معناه إنما يدرك الحق الذي هو حقيقة الشيء بالعلم واليقين لا بالظن والتوهم وقيل‏:‏ الحق هو الله تعالى والمعنى أن الأوصاف الإلهية لا تستخرج بالظنون ‏{‏فأعرض عمن تولى عن ذكرنا‏}‏ يعني القرآن‏.‏

وقيل‏:‏ عن الإيمان ‏{‏ولم يرد إلا الحياة الدنيا‏}‏ يعني أنهم لا يؤمنون بالآخرة حتى يردوها ويعملوا لها وفيه إشارة إلى إنكارهم الحشر ثم صغر رأيهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك مبلغهم من العلم‏}‏ أي ذلك نهاية علمهم وقلة عقولهم أن آثروا الدنيا على الآخرة وقيل‏:‏ معناه أنهم لم يبلغوا من العلم إلا ظنهم أن الملائكة بنات الله وأنهم يشفعون لهم فاعتمدوا على ذلك وأعرضوا عن القرآن والإيمان ‏{‏إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى‏}‏ أي هو عالم بالفريقين ويجازيهم بأعمالهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 32‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ‏(‏31‏)‏ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏ولله ما في السموات وما في الأرض‏}‏ وهذه إشارة إلى كمال قدرته وغناه وهو معترض بين الآية الأولى وبين قوله ‏{‏ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا‏}‏‏.‏ والمعنى‏:‏

إذا كان أعلم بهم جازى كل أحد بما يستحقه فيجزي الذين أساؤوا أي أشركوا بما عملوا من الشرك ‏{‏ويجزي الذين أحسنوا‏}‏ أي وحدوا ربهم ‏{‏بالحسنى‏}‏ يعني الجنة وإنما يقدر على مجازاة المحسن والمسيء إذا كان كثير الملك كامل القدرة فلذلك قال ولله ما في السموات وما في الأرض ثم وصف المحسنين فقال عز وجل‏:‏ ‏{‏الذين يجتنبون كبائر الإثم‏}‏ قيل‏:‏ الإثم، الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب وقيل‏:‏ هو اسم للأفعال المبطئة عن الثواب، وقيل‏:‏ هو فعل ما لا يحل وقيل‏:‏ الإثم جنس يشتمل على كبائر وصغائر وجمعه آثام والكبيرة متعارفة في كل ذنب تعظم عقوبته وجمعه كبائر ‏{‏والفواحش‏}‏ جمع فاحشة، وهي ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال وقيل‏:‏ هي ما فحش من الكبائر ‏{‏إلا اللمم‏}‏ أي إلا ما قل وصغر من الذنوب وقيل‏:‏ هي مقاربة المعصية من قولك ألممت بكذا إذا قاربته من غير مواقعة واختلفوا في معنى الآية فقيل هذا استثناء صحيح واللمم من الكبائر والفواحش ومعنى الآية‏:‏ إلا إن يلم بالفاحشة مرة ثم يتوب أو يقع الوقعة ثم ينتهي وهو قول أبي هريرة ومجاهد والحسن ورواية عن ابن عباس‏.‏ وقال عبد الله بن عمرو بن العاص‏:‏ اللمم ما دون الشرك‏.‏ وقال أبو صالح‏:‏ سئلت عن قول الله عز وجل إلا اللمم فقلت‏:‏ هو الرجل يلم بالذنب ثم لا يعاوده فذكرت ذلك لابن عباس فقال‏:‏ أعانك عليها ملك كريم‏.‏ عن ابن عباس في قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم‏}‏‏.‏ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن تغفر اللهم تغفر جماً وأي عبد لك لا ألما» أخرجه الترمذي وقال‏:‏ حديث حسن صحيح غريب وقيل‏:‏ أصل اللمم والإلمام ما يعمله الإنسان الحين بعد الحين ولا يكون له إعادة ولا إقامة وقيل‏:‏ هو استثناء منقطع مجازه لكن اللمم ولم يجعل اللمم من الكبائر والفواحش ثم اختلفوا في معناه فقيل هو ما سلف في الجاهلية فلا يؤاخذهم به في الإسلام وذلك أن المشركين قالوا للمسلمين‏:‏ إنهم كانوا بالأمس يعملون معنا فأنزل الله عز وجل هذه الآية وهذا قول زيد بن ثابت وزيد بن سلم‏.‏ وقيل‏:‏ اللمم هو صغار الذنوب كالنظرة والغمزة والقبلة ونحو ذلك مما هو دون الزنى وهو قول ابن مسعود وأبي هريرة ومسروق والشعبي والرواية الأخرى عن ابن عباس ‏(‏ق‏)‏ عن ابن عباس قال «ما رأيت شيئاً أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله عز وجل كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة فزنى العينين النظر وزنى اللسان النطق والنفس تتمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه»‏.‏

ولمسلم قال‏:‏ «كتب على ابن آدم نصيبه من الزنى مدرك ذلك لا محالة العينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع واللسان زناه الكلام واليد زناها البطش والرجل زناها الخطا والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه» وقيل‏:‏ اللمم على وجهين، أحدهما أنه كل ذنب لم يذكر الله تعالى عليه حداً في الدنيا ولا عذاباً في الآخرة فذلك الذي تكفره الصلوات الخمس وصوم رمضان ما لم يبلغ الكبائر والفواحش‏.‏

والوجه الثاني‏:‏ هو الذنب العظيم يلم به المسلم المرة بعد المرة فيتوب منه وقيل‏:‏ هو ما لم على القلب أي خطر وقيل‏:‏ اللمم النظرة من غير عمد فهو مغفور فإن أعاد النظر فليس بلمم فهو ذنب والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

‏(‏فصل‏:‏ في بيان الكبيرة وحدها وتمييزها عن الصغيرة‏)‏

قال العلماء‏:‏ أكبر الكبائر الشرك بالله وهو ظاهر لا خفاء به لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الشرك لظلم عظيم‏}‏ ويليه القتل بغير حق فأما ما سواهما من الزنا واللواط وشرب الخمر وشهادة الزور وأكل مال اليتيم بغير حق والسحر وقذف المحصنات وعقوق الوالدين والفرار من الزحف وأكل الربا وغير ذلك من الكبائر التي ورد بها النص فلها تفاصيل وأحكام تعرف بها مراتبها ويختلف أمرها باختلاف الأحوال والمفاسد المرتبة عليها‏.‏ فعلى هذا يقال في كل واحدة منها، هي من أكبر الكبائر بالنسبة إلى ما دونها‏.‏

وقد جاء عن ابن عباس أنه سئل عن الكبائر أسبع هي قال هي إلى السبعين أقرب‏.‏

وفي وراية إلى سبعمائة أقرب وقد اختلف العلماء في حد الكبيرة وتمييزها عن الصغيرة فجاء عن ابن عباس‏:‏ كل شيء نهى الله عنه فهو كبيرة‏.‏ وبهذا قال الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني وحكاه القاضي عياض عن المحققين واحتج القائلون بهذا بأن كل مخالفة فهي بالنسبة إلى جلال الله كبيرة وذهب الجماهير من السلف والخلف من جميع الطوائف إلى انقسام المعاصي إلى صغائر وكبائر وقد تظاهرت على ذلك دلائل الكتاب والسنة واستعمال سلف الأئمة‏.‏ وإذا ثبت انقسام المعاصي إلى صغائر وكبائر، فقد اختلف في ضبطها، فروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب وعن الحسن نحو هذا وقيل‏:‏ هي ما وعد الله عليه بنار في الآخرة وأحد في الدنيا‏.‏ وقال الغزالي‏:‏ في البسيط الضابط الشامل في ضبط الكبيرة أن كل معصية يقدم عليها المرء من غير استشعار خوف أو استحداث ندم كالمتهاون في ارتكابها والمستجرئ عليها اعتياداً فما أشعر بهذا الاستخفاف والتهاون فهو كبيرة وما تحمل عليه فلتات النفس وفترة مراقبة التقوى ولا ينفك عن ندم يمتزج به تنغيص التلذذ بالمعصية فهذا لا يمنع العدالة وليس بكبيرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 36‏]‏

‏{‏أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى ‏(‏33‏)‏ وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى ‏(‏34‏)‏ أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى ‏(‏35‏)‏ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى ‏(‏36‏)‏‏}‏

‏{‏أفرأيت الذي تولى‏}‏ نزلت في الوليد بن المغيرة كان قد اتبع النبي صلى الله عليه وسلم على دينه فغيره بعض المشركين وقالوا‏:‏ أتركت دين الأشياخ وضللت‏.‏ قال‏:‏ إني خشيت عذاب الله فضمن له الذي عاتبه إن أعطاه كذا من ماله ورجع إلى الشرك أن يتحمل عنه عذاب الله فرجع الوليد إلى الشرك وأعطى للذي عيره بعض الذي ضمن له من المال ومنعه تمامه فأنزل الله أفرأيت الذي تولى يعني أدبر وأعرض عن الإيمان ‏{‏وأعطى‏}‏ يعني لصاحبه الذي عيره ‏{‏قليلاً وأكدى‏}‏ أي بخل بالباقي‏.‏ وقيل‏:‏ أعطى قليلاً يعني من الخير بلسانه وأكدى يعني قطعه وأمسك ولم يعم بالعطية‏.‏

وقيل‏:‏ نزلت في العاص بن وائل السهمي وذلك أنه كان ربما يوافق النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور‏.‏

وقيل‏:‏ نزلت في أبي جهل وذلك أنه قال والله ما يأمرنا محمد إلا بمكارم الأخلاق فذلك قوله‏:‏ وأعطى قليلاً وأكدى يعني لم يؤمن به ومعنى الآية أكدى يعني قطع وأصله من الكدية وهي حجر يظهر في البئر يمنع من الحفر ‏{‏أعنده علم الغيب فهو يرى‏}‏ أي ما غاب عنه يعني أن صاحبه يتحمل عنه عذابه ‏{‏أم لم ينبأ‏}‏ يعني يخبر ‏{‏بما في صحف موسى‏}‏ يعني أسفار التوراة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 41‏]‏

‏{‏وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ‏(‏37‏)‏ أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ‏(‏38‏)‏ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ‏(‏39‏)‏ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ‏(‏40‏)‏ ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏وإبراهيم‏}‏ يعني ويخبر بما في صحف إبراهيم ‏{‏الذي وفى‏}‏ يعني كمل وتمم مما أمر به وقيل‏:‏ عمل بما أمر به وبلغ رسالات ربه إلى خلقه وقيل وفى فرض عليه وقيل قام بذبح ولده وقيل استكمل الطاعة‏.‏ وقيل‏:‏ وفى بما فرض عليه في سهام الإسلام وهو قوله ‏{‏وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن‏}‏ والتوفية الإتمام‏.‏ وقيل‏:‏ وفي شأن المناسك‏.‏ وروى البغوي بسنده عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إبراهيم الذي وفى عمله كل يوم بأربع ركعات أول النهار‏.‏

عن أبي الدرداء وأبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله تبارك وتعالى أنه قال «ابن آدم اركع لي أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره» أخرجه الترمذي وقال‏:‏ حديث حسن غريب ثم بين ما في صحفهما فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ألا تزر وازرة وزر أخرى‏}‏ أي لا تحمل نفس حاملة حمل نفس أخرى‏.‏ والمعنى‏:‏ لا تؤخذ نفس بإثم غيرها‏.‏ وفي هذا إبطال قول من ضمن للوليد بن المغيرة أن يحمل عنه الإثم‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ كانوا قبل إبراهيم يأخذون الرجل بذنب غيره كان الرجل يقتل بقتل أبيه وابنه وأخيه وامرأته وعبده حتى كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام فنهاهم عن ذلك وبلغهم عن الله تعالى‏:‏ ‏{‏ألا تزر وازرة وزر أخرى‏}‏ ‏{‏وأن ليس للإنسان إلا ما سعى‏}‏ أي عمل وهذا في صحف إبراهيم وموسى أيضاً قال ابن عباس هذا منسوخ الحكم في هذه الشريعة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألحقنا بهم ذريتهم‏}‏ فأدخل الأبناء الجنة بصلاح الآباء وقيل كان ذلك لقوم إبراهيم وموسى فأما هذه الأمة فلها ما سعوا وما سعى لهم غيرهم لما روي عن ابن عباس «أن امرأة رفعت صبياً لها فقالت يا رسول الله ألهذا حج‏؟‏ قال نعم ولك أجراً» أخرجه مسلم وعنه «أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن أمي توفيت أينفعها إن تصدقت عنها‏؟‏ قال نعم»‏.‏

وفي رواية أن سعد بن عبادة أخا بني سعد وذكر نحوه وأخرجه البخاري وعن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ «إن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن أمي افتلتت نفسها وأظنها لو تكلمت تصدقت فهل لها أجر إن تصدقت عنها‏؟‏ قال نعم‏.‏» أخرجاه في الصحيحين‏.‏ وفي حديث ابن عباس دليل لمذهب الشافعي ومالك وأحمد وجماهير العلماء أن حج الصبي منعقد صحيح يثاب عليه وإن كان لا يجزيه عن حجة الإسلام بل يقع تطوعاً‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يصح حجه وإنما يكون ذلك تمريناً للعبادة‏.‏ وفي الحديثين الآخرين دليل على أن الصدقة عن الميت تنفع الميت ويصله ثوابها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 47‏]‏

‏{‏وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ‏(‏42‏)‏ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ‏(‏43‏)‏ وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ‏(‏44‏)‏ وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ‏(‏45‏)‏ مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى ‏(‏46‏)‏ وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏وأن إلى ربك المنتهى‏}‏ أي إليه منتهى الخلق ومصيرهم إليه في الآخرة وهو مجازيهم بأعمالهم وفي المخاطب بهذا وجهان أحدهما أنه عام تقديره وأن إلى ربك أيها السامع أو العاقل كائناً من كان المنتهى فهو تهديد بليغ للمسيء وحث شديد للمحسن ليقلع المسيء عن إساءته ويزداد المحسن في إحسانه الوجه الثاني أن المخاطب بهذا النبي صلى الله عليه وسلم فعلى هذا، ففيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ والمعنى‏:‏ لا تحزن فإن إلى ربك المنتهى‏.‏ وقيل‏.‏ في معنى الآية‏:‏ منه ابتداء المنة وإليه انتهاء الآمال‏.‏ وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله ‏{‏وأن إلى ربك المنتهى‏}‏ قال لا فكرة في الرب‏.‏

وهذا مثل ما روي عن أبي هريرة مرفوعاً‏:‏ «تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق فإنه لا تحيط به الفكرة» ومعناه‏:‏ لا فكرة في الرب أي انتهى الأمر إليه لأنك إذا نظرت إلى سائر الموجودات الممكنة علمت أن لا بد لها من موجد وإذا علمت أن موجدها هو الله تعالى فقد انتهى الأمر إليه فهو إشارة إلى وجوده ووحدانيته سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وأنه هو أضحك وأبكى‏}‏ أي هو القادر على إيجاد الضدين في محل واحد الضحك والبكاء ففيه دليل على أن جميع ما يعمله الإنسان فبقضاء الله وقدره وخلقه حتى الضحك والبكاء وقيل أضحك أهل الجنة في الجنة وأبكى أهل النار في النار قيل أضحك الأرض بالنبات وأبكى السماء بالمطر وقيل‏:‏ أفرح وأحزن، لأن الفرح يجلب الضحك والحزن يجلب البكاء عن جابر بن سمرة قال «جلست مع النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مائة مرة وكان أصحابه يتناشدون الشعر ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية وهو ساكت وربما تبسم معهم إذا ضحكوا» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح‏.‏

وفي رواية سماك بن حرب‏:‏ فيضحكون ويتبسم معهم إذا ضحكوا يعني النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وسئل ابن عمر‏:‏ هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحكون‏؟‏ قال‏:‏ نعم والإيمان في قلوبهم أعظم من الجبل ‏(‏ق‏)‏‏.‏

عن أنس قال‏:‏ «خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط فقال‏:‏ لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم لهم خنين» وهو بالخاء المعجمة أي بكاء مع صوت يخرج من الأنف ‏{‏وأنه هو أمات وأحيا‏}‏ أي أمات في الدنيا وأحيا للبعث‏.‏ وقيل‏:‏ أمات الآباء وأحيا الأبناء‏.‏ وقيل‏:‏ أمات الكافر بالنكرة وأحيا المؤمن بالمعرفة ‏{‏وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى‏}‏ أي من كل حيوان وهو أيضاً من جملة المتضادات التي تتوارد على النطفة فيخلق بعضها ذكراً وبعضها أنثى وهذا شيء لا يصل إليه فهم العقلاء ولا يعلمونه وإنما هو بقدرة الله تعالى وخلقه لا بفعل الطبيعة ‏{‏من نطفة إذا تمنى‏}‏ أي تصب في الرحم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48- 56‏]‏

‏{‏وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى ‏(‏48‏)‏ وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى ‏(‏49‏)‏ وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى ‏(‏50‏)‏ وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى ‏(‏51‏)‏ وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى ‏(‏52‏)‏ وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى ‏(‏53‏)‏ فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى ‏(‏54‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى ‏(‏55‏)‏ هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏وأنه هو أغنى وأقنى‏}‏ أي أغنى الناس بالأموال وأعطى القنية وهي أصول الأموال وما يدخرونه بعد الكفاية‏.‏ وقيل‏:‏ أغنى بالذهب والفضة وصنوف الأموال وما يدخرونه بعد الكفاية‏.‏ وأقنى‏:‏ بالإبل والبقر والغنم‏.‏ وقيل‏:‏ أقنى أي أخدم‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ أغنى وأقنى، أي أعطى فأرضى‏.‏ وقيل‏:‏ أغنى يعني رفع حاجته ولم يتركه محتاجاً إلى شيء لأن الغنى ضد الفقر، وأقنى‏:‏ أي زاد فوق الغنى ‏{‏وأنه هو رب الشعرى‏}‏ أي أنه رب معبودهم وكانت خزاعة تعبد الشعرى وأول من سن لهم ذلك الرجل من أشرافهم يقال له أبو كبشة عبدها وقال‏:‏ لأن النجوم تقطع السماء عرضاً والشعرى تقطعها طولاً فهي مخالفة لها فعبدها وعبدتها خزاعة فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على خلاف العرب في الدين سموه ابن أبي كبشة تشبيهاً له في خلافه إياهم كما خالفهم أبو كبشة وعبد الشعرى وهو كوكب يضيء خلف الجوازء ويسمى كلب الجبار أيضاً وهما اثنتان‏:‏ يمانية وشامية يقال لإحداهما العبور والأخرى الغميصاء‏.‏ سميت بذلك لأنها أخفى من العبور والمجرة بينهما‏.‏ وأراد بالشعرى هنا العبور ‏{‏وأنه أهلك عاداً الأولى‏}‏ وهم قوم هود أهلكوا بريح صرصر وكان لهم عقب فكانوا عاداً أخرى وقيل‏:‏ الأخرى إرم‏.‏ وقيل‏:‏ الأولى يعني أول الخلق هلاكاً بعد قوم نوح ‏{‏وثمود‏}‏ وهم قوم صالح أهلكهم الله بالصيحة ‏{‏فما أبقى‏}‏ يعني منهم أحداً ‏{‏وقوم نوح من قبل‏}‏ يعني أهلك قوم نوح من قبل عاد وثمود بالغرق ‏{‏إنهم كانوا هم أظلم وأطغى‏}‏ يعني لطول دعوة نوح إياهم وعتوهم على الله بالمعصية والتكذيب ‏{‏والمؤتفكة‏}‏ يعني قرى قوم لوط ‏{‏أهوى‏}‏ أي أسقط وذلك أن جبريل رفعها إلى السماء ثم أهوى بها ‏{‏فغشاها‏}‏ أي ألبسها الله ‏{‏ما غشى‏}‏ يعني الحجارة المنضودة المسومة ‏{‏فبأي آلاء ربك تتمارى‏}‏ أي تشكُّ أيها الإنسان‏.‏ وقيل‏:‏ أراد الوليد بن المغيرة‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ تتمارى أي تكذب ‏{‏هذا نذير‏}‏ يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ‏{‏من النذر الأولى‏}‏ أي رسول من الرسل المتقدمة أرسل إليكم كما أرسلت الرسل إلى قومهم وقيل‏:‏ أنذر محمد كما أنذرت الرسل من قبله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 62‏]‏

‏{‏أَزِفَتِ الْآَزِفَةُ ‏(‏57‏)‏ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ ‏(‏58‏)‏ أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ ‏(‏59‏)‏ وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ ‏(‏60‏)‏ وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ ‏(‏61‏)‏ فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ‏(‏62‏)‏‏}‏

‏{‏أزفت الآزفة‏}‏ أي قربت القيامة واقتربت الساعة ‏{‏ليس لها من دون الله كاشفة‏}‏ أي مظهرة ومبينة متى تقوم‏.‏ وقيل‏:‏ معناه ليس لها نفس قادرة على كشفها إذا وقعت إلا الله غير أنه لا يكشفها‏.‏ وقيل‏:‏ الكاشفة مصدر بمعنى الكشف كالعافية‏.‏ والمعنى‏:‏ لا يكشف عنها ولا يظهرها غيره‏.‏ وقيل‏:‏ معناه ليس لها رد يعني‏:‏ إذا غشيت الخلق أهوالها وشدائدها لم يكشفها ولم يردها عنهم أحد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفمن هذا الحديث‏}‏ يعني القرآن ‏{‏تعجبون‏}‏ تنكرون ‏{‏وتضحكون‏}‏ أي استهزاء ‏{‏ولا تبكون‏}‏ أي مما فيه من الوعيد ‏{‏وأنتم سامدون‏}‏ أي لاهون غافلون قاله ابن عباس‏.‏ وعنه، أن السمود هو الغناء بلغة أهل اليمن وكانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا‏.‏ ولعبوا وأصل السمود في اللغة، رفع الرأس، مأخوذ، من سمد البعير إذا رفع رأسه وجد في سيره والسامد اللاهي والمعنى‏.‏ وقيل‏:‏ معناه أشرون بطرون‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ غضاب مبرطمون قيل له‏:‏ وما البرطمة‏؟‏ قال‏:‏ الإعراض ‏{‏فاسجدوا لله‏}‏ يعني أيها المؤمنون شكراً على الهداية‏.‏ وقيل‏:‏ هذا محمول على سجود التلاوة‏.‏ وقيل‏:‏ على سجود الفرض في الصلاة ‏{‏واعبدوا‏}‏ أي اعبدوا الله وإنما قال‏:‏ واعبدوا، إما لكونه معلوماً، وإما لأن العبادة في الحقيقة لا تكون إلا لله تعالى ‏(‏ق‏)‏ عن عبد الله بن مسعود‏:‏ «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ والنجم فسجد فيها وسجد من كان معه غير أن شيخاً من قريش أخذ كفاً من حصباء أو تراب فرفعه إلى جبهته وقال‏:‏ يكفيني هذا قال عبد الله فلقد رأيته بعد قتل كافر» زاد البخاري في رواية له قال‏:‏ «أول سورة نزلت فيها سجدة النجم وذكره» وقال في آخره وهو «أمية بن خلف» ‏(‏خ‏)‏‏.‏

عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس ‏(‏ق‏)‏ عن زيد بن ثابت قال‏:‏ «قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم النجم فلم يسجد فيها» ففي هذا الحديث دليل على أن سجود التلاوة غير واجب وهو قول الشافعي وأحمد وقال عمر بن الخطاب‏:‏ إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء وذهب قوم إلى وجوبها على القارئ والمستمع وهو قول سفيان وأصحاب الرأي والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

سورة القمر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ‏(‏1‏)‏ وَإِنْ يَرَوْا آَيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ‏(‏2‏)‏ وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏اقتربت الساعة‏}‏ أي دنت القيامة ‏{‏وانشق القمر‏}‏ قيل‏:‏ فيه تقديم وتأخير تقديره انشق القمر واقتربت الساعة وانشقاق القمر من آيات رسول الله صلى الله عليه وسلم الظاهرة ومعجزاته يدل عليه ما روي عن أنس‏:‏ «أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر مرتين»‏.‏

أخرجه البخاري ومسلم‏.‏ وزاد الترمذي فنزلت ‏{‏اقتربت الساعة وانشق القمر‏}‏ إلى قوله ‏{‏سحر مستمر‏}‏ ولهما عن ابن مسعود‏.‏ قال‏:‏ «انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شقتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اشهدوا» وفي رواية أخرى قال‏:‏ «بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى إذ انفلق القمر فلقتين، فلقة فوق الجبل، وفلقة دونه‏.‏ فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ اشهدوا» ولهما عن ابن عباس قال‏:‏ «إن القمر انشق في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم» ‏(‏م‏)‏ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال‏:‏ «انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقتين فستر الجبل فلقة وكانت فلقة فوق الجبل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ اشهدوا» وعن جبير بن مطعم قال‏:‏ «انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فرقتين فقالت قريش سحر محمد أعيننا، فقال بعضهم لئن كان سحرنا ما يستطيع أن يسحر الناس كلهم» أخرجه الترمذي وزاد غيره فكانوا يتلقون الركبان فيخبرونهم بأنهم قد رأوه فيكذبونهم‏.‏

قال مقاتل‏:‏ انشق القمر ثم التأم بعد ذلك‏.‏ وروى مسروق عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت قريش‏:‏ سحركم ابن أبي كبشة فسألوا السفارة فقالوا‏:‏ نعم‏.‏ قد رأيناه فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏اقتربت الساعة وانشق القمر‏}‏‏.‏ فهذه الأحاديث الصحيحة قد وردت بهذه المعجزة العظيمة، مع شهادة القرآن المجيد بذلك فإنه أدل دليل وأقوى مثبت له وإمكانه لا يشك فيه مؤمن وقد أخبر عنه الصادق فيجب الإيمان به واعتقاد وقوعه‏.‏

وقال الشيخ محيي الدين النووي في شرح صحيح مسلم، قال الزجاج‏:‏ وقد أنكرها بعض المبتدعة المضاهين المخالفي الملة وذلك لما أعمى الله قلبه ولا إنكار للعقل فيها لأن القمر مخلوق لله تعالى يفعل فيه ما يشاء كما يفنيه ويكوره في آخر أمره‏.‏ فأما قول بعض الملاحدة لو وقع هذا النقل متواتراً واشترك أهل الأرض كلهم في رؤيتهم له ومعرفته ولم يختص بها أهل مكة فأجاب العلماء عن هذا بأن هذا الانشقاق حصل في الليل ومعظم الناس نيام غافلون والأبواب مغلقة وهم مغطون بثيابهم فقل من يتفكر في السماء أو ينظر إليها إلا الشاذ النادر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 7‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ‏(‏4‏)‏ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ ‏(‏5‏)‏ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ ‏(‏6‏)‏ خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏ولقد جاءهم‏}‏ يعني أهل مكة ‏{‏من الأنباء‏}‏ أي من أخبار الأمم الماضية المكذبة في القرآن ‏{‏ما فيه مزدجر‏}‏ أي منتهى وموعظة ‏{‏حكمة بالغة‏}‏ يعني القرآن حكمة تامة قد بلغت الغاية ‏{‏فما تغني النذر‏}‏ يعني أي غنى تغني النذر إذا خالفوهم وكذبوهم ‏{‏فتول عنهم‏}‏ أي أعرض عنهم نسختها آية القتال ‏{‏يوم يدع الداع‏}‏ أي اذكر يا محمد يوم يدع الداعي وهو إسرافيل ينفخ في الصور قائماً على صخرة بيت المقدس ‏{‏إلى شيء نكر‏}‏ أي منكر فظيع لم يروا مثله، فينكرونه استعظاماً له ‏{‏خشعاً‏}‏ وقرئ خاشعاً ‏{‏أبصارهم‏}‏ أي ذليلة خاضعة عند رؤية العذاب ‏{‏يخرجون من الأجداث‏}‏ يعني من القبور ‏{‏كأنهم جراد منتشر‏}‏ مثل في كثرتهم وتموج بعضهم في بعض حيارى فزعين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 14‏]‏

‏{‏مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ ‏(‏8‏)‏ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ‏(‏9‏)‏ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ‏(‏10‏)‏ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ ‏(‏11‏)‏ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ‏(‏12‏)‏ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ‏(‏13‏)‏ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏مهطعين‏}‏ مسرعين مادي أعناقهم مقبلين ‏{‏إلى الداع‏}‏ يعني إلى صوت الداعي وهو إسرافيل وقيل ناظرين إليه لا يقلعون بأبصارهم ‏{‏يقول الكافرون هذا يوم عسر‏}‏ أي صعب شديد وفيه إشارة إلى أن ذلك اليوم يوم شديد على الكافرين لا على المؤمنين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذبت قبلهم‏}‏ أي قبل أهل مكة ‏{‏قوم نوح فكذبوا عبدنا‏}‏ يعني نوحاً ‏{‏وقالوا مجنون وازدجر‏}‏ أي زجروه على دعوته ومقالته بالشم والوعيد بقولهم ‏{‏لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين‏}‏ ‏{‏فدعا‏}‏ يعني نوحاً ‏{‏ربه‏}‏ وقال ‏{‏إني مغلوب‏}‏ أي مقهور ‏{‏فانتصر‏}‏ أي فانتقم لي منهم ‏{‏ففتحنا أبواب السماء‏}‏ قيل هو على ظاهره وللسماء أبواب تفتح وتغلق ولا يستبعد ذلك لأنه قد صح في الحديث أن للسماء أبواباً‏.‏ وقيل‏:‏ هو على الاستعارة، فإن الظاهر أن يكون المطر من السحاب ‏{‏بماء منهمر‏}‏ أي منصب انصباباً شديداً لم ينقطع أربعين يوماً ‏{‏وفجرنا الأرض عيوناً‏}‏ أي وجعلنا الأرض كلها عيوناً تسيل بالماء ‏{‏فالتقى الماء‏}‏ يعني ماء السماء وماء الأرض ‏{‏على أمر قد قدر‏}‏ أي قضى عليهم في أم الكتاب‏.‏

وقيل قدر الله أن يكون الماءان سواء فكانا على ما قدر ‏{‏وحملناه‏}‏ يعني نوحاً ‏{‏على ذات ألواح‏}‏ يعني سفينة ذات ألواح‏.‏ وأراد بالألواح، خشب السفينة العريضة‏.‏ ‏{‏ودسر‏}‏ هي المسامير التي تشد بها الألواح وقيل الدسر صدر السفينة‏.‏ وقيل‏:‏ هي عوارض السفينة وأضلاعها‏.‏

وقيل‏:‏ الألواح‏:‏ جانبا السفينة، والدسر‏:‏ أصلها وطرفاها‏.‏ ‏{‏تجري‏}‏ يعني السفينة ‏{‏بأعيننا‏}‏ يعني بمرأى منا‏.‏ وقيل‏:‏ بحفظنا‏.‏ وقيل‏:‏ بأمرنا ‏{‏جزاء لمن كان كفر‏}‏ يعني فعلنا ذلك به وبهم من إنجاء نوح وإغراق قومه ثواباً لنوح لأنه كان كفر به وجحد أمره‏.‏ وقيل لمن بمعنى لما أي جزاء لما كان كفر من أيادي الله ونعمه عند الذين أغرقهم‏.‏ وقيل‏:‏ جزاء لما صنع بنوح وأصحابه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 24‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آَيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ‏(‏15‏)‏ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ‏(‏16‏)‏ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ‏(‏17‏)‏ كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ‏(‏18‏)‏ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ ‏(‏19‏)‏ تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ ‏(‏20‏)‏ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ‏(‏21‏)‏ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ‏(‏22‏)‏ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ ‏(‏23‏)‏ فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏ولقد تركناها آية‏}‏ يعني الفعلة التي فعلنا بهم آية يعتبر بها‏.‏ وقيل‏:‏ أراد السفينة‏.‏ قال قتادة‏:‏ أبقاها الله تعالى بأرض الجزيرة عبرة حتى نظر إليها أوائل هذه الأمة ‏{‏فهل من مدكر‏}‏ يعني متذكر معتبر متعظ خائف مثل عقوبتهم ‏(‏ق‏)‏ عن ابن مسعود قال «قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم مذكر فردها عليّ» وفي رواية أخرى «سمعته يقرؤها فهل من مدكر دالاً» ‏{‏فكيف كان عذابي ونذر‏}‏ يعني إنذاري ‏{‏ولقد يسرنا القرآن‏}‏ يعني سهلنا القرآن ‏{‏للذكر‏}‏ يعني ليتذكر ويعتبر به قال سعيد بن جبير يسرناه للحفظ والقراءة وليس شيء من كتب الله تعالى يقرأ كله ظاهراً إلا القرآن ‏{‏فهل من مدكر‏}‏ يعني متعظ بمواعظه وفيه الحث على تعليم القرآن والاشتغال به لأنه قد يسره الله وسهله على من يشاء من عباده بحيث يسهل حفظه للصغير والكبير والعربي والعجمي وغيرهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر‏}‏ أي إنذاري لهم بالعذاب ‏{‏إنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً‏}‏ أي شديدة الهبوب ‏{‏في يوم نحس‏}‏ أي يوم شؤم ‏{‏مستمر‏}‏ أي دائم الشؤم استمر على جميعهم بنحو سنة فلم يبق منهم أحد إلا هلك فيه‏.‏

وقيل‏:‏ كان ذلك اليوم يوم الأربعاء في آخر الشهر ‏{‏تنزع الناس‏}‏ أي الريح تقلعهم ثم ترمي بهم على رؤوسهم فتدق رقابهم‏.‏ قيل‏:‏ كانت تنزعهم من حفرهم ‏{‏كأنهم أعجاز نخل‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أصول نخل ‏{‏منقعر‏}‏ أي منقطع من مكانه ساقط على الأرض‏.‏ قيل‏:‏ كانت الريح تبين رؤوسهم من أجسامهم فتبقي أجسامهم بلا رؤوس كعجز النخلة الملقاة ‏{‏فكيف كان عذابي ونذر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر كذبت ثمود بالنذر‏}‏ أي بالإنذار الذي جاء به صالح ‏{‏فقالوا أبشراً منا واحداً‏}‏ يعني آدمياً واحداً منا ‏{‏نتبعه‏}‏ أي ونحن جماعة كثيرون ‏{‏إنا إذاً لفي ضلال‏}‏ أي خطأ وذهاب عن الصواب ‏{‏وسعر‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ عذاب‏.‏ وقيل‏:‏ شدة عذاب وقيل إنا لفي عناء وعذاب مما يلزمنا من طاعته‏.‏ وقيل‏:‏ لفي جنون‏.‏ وقيل‏:‏ لفي بعد عن الحق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 31‏]‏

‏{‏أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ ‏(‏25‏)‏ سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ ‏(‏26‏)‏ إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ ‏(‏27‏)‏ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ ‏(‏28‏)‏ فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ ‏(‏29‏)‏ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ‏(‏30‏)‏ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏أألقي الذكر عليه‏}‏ يعني أأنزل الوحي عليه ‏{‏من بيننا بل هو كذاب أشر‏}‏ أي بطر متكبر يريد أن يتعظم علينا بادعائه النبوة ‏{‏سيعلمون غداً‏}‏ أي حين ينزل بهم العذاب‏.‏ وقيل‏:‏ يعني يوم القيامة وإنما ذكر الغد للتقريب ‏{‏من الكذاب الأشر‏}‏ أي صالح أم من كذبه ‏{‏إنا مرسلوا الناقة‏}‏ أي باعثوها ومخرجوها من الهضبة التي سألوا، وذلك أنهم تعنتوا على صالح فسألوه أن يخرج لهم من صخرة حمراء ناقة عشراء فقال الله تعالى إنا مرسلو الناقة ‏{‏فتنة‏}‏ أي محنة واختباراً ‏{‏لهم فارتقبهم‏}‏ أي فانتظر ما هم صانعون ‏{‏واصطبر‏}‏ أي على أذاهم ‏{‏ونبئهم‏}‏ أي أخبرهم ‏{‏أن الماء قسمة بينهم‏}‏ أي بين الناقة وبينهم لها يوم ولهم يوم وإنما قال تعالى بينهم تغليباً للعقلاء ‏{‏كل شرب‏}‏ أي نصيب من الماء ‏{‏محتضر‏}‏ أي يحضره من كانت نوبته فإذا كان يوم الناقة حضرت شربها وإذا كان يومهم حضروا شربهم‏.‏ وقيل‏:‏ يعني يحضرون الماء إذا غابت الناقة فإذا جاءت حضروا اللبن ‏{‏فنادوا صاحبهم‏}‏ يعني قدار بن سالف ‏{‏فتعاطى‏}‏ أي فتناول الناقة بسيفه ‏{‏فعقر‏}‏ يعني الناقة ‏{‏فكيف كان عذابي ونذر‏}‏ ثم بين عذابهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة‏}‏ يعني صيحة جبريل ‏{‏فكانوا كهشيم المحتظر‏}‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ هو الرجل يحظر لغنمه حظيرة من الشجر والشوك دون السباع فما سقط من ذلك فداسته الغنم فهو الهشيم‏.‏ وقيل‏:‏ هو الشجر البالي الذي يهشم حين تذروه الرياح‏.‏

والمعنى‏:‏ أنهم صاروا كيبيس الشجر إذا بلي وتحطم وقيل كالعظام النخرة المحترقة وقيل هو التراب يتناثر من الحائط‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 42‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ‏(‏32‏)‏ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ ‏(‏33‏)‏ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آَلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ ‏(‏34‏)‏ نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ ‏(‏35‏)‏ وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ ‏(‏36‏)‏ وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ ‏(‏37‏)‏ وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ ‏(‏38‏)‏ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ ‏(‏39‏)‏ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ‏(‏40‏)‏ وَلَقَدْ جَاءَ آَلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ ‏(‏41‏)‏ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذبت قوم لوط بالنذر إنا أرسلنا عليهم حاصباً‏}‏ يعني الحصباء وهي الحجارة التي دون ملء الكف وقد يكون الحاصب الرامي، فعلى هذا، يكون المعنى إنا أرسلنا عليهم عذاباً يحصبهم أي يرميهم بالحجارة ثم استثنى‏.‏

فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إلا آل لوط‏}‏ يعني لوطاً وابنتيه ‏{‏نجيناهم‏}‏ يعني من العذاب ‏{‏بسحر نعمة من عندنا‏}‏ أي جعلناه نعمة منا عليهم حيث نجيناهم ‏{‏كذلك نجزي‏}‏ أي كما أنعمنا على آل لوط كذلك نجزي ‏{‏من شكر‏}‏ يعني أن من وحد الله لم يعذبه مع المشركين ‏{‏ولقد أنذرهم‏}‏ أي لوط ‏{‏بطشتنا‏}‏ يعني أخذنا إياهم بالعقوبة ‏{‏فتماروا بالنذر‏}‏ أي شكوا بالإنذار ولم يصدقوا وكذبوا ‏{‏ولقد راودوه عن ضيفه‏}‏ أي طلبوا منه أن يسلم إليهم أضيافه ‏{‏فطمسنا أعينهم‏}‏ وذلك أنهم لما قصدوا دار لوط عالجوا الباب ليدخلوا عليهم فقالت الرسل للوط خل بينهم وبين الدخول فإنا رسل ربك لن يصلوا إليك فدخلوا الدار فصفقهم جبريل بجناحه فتركهم عمياً بإذن الله يترددون متحيرين لا يهتدون إلى الباب وأخرجهم لوط عمياً لا يبصرون‏.‏

ومعنى‏:‏ فطمسنا أعينهم، يعني صيرناها كسائر الوجه لا يرى لها شق‏.‏ وقيل‏:‏ طمس الله أبصارهم فلم يروا الرسل فقالوا لقد رأيناهم حين دخلوا فأين ذهبوا‏؟‏ فلم يروهم ‏{‏فذوقوا عذابي ونذر‏}‏ يعني ما أنذركم به لوط من العذاب ‏{‏ولقد صبحهم بكرة‏}‏ أي جاءهم وقت الصبح ‏{‏عذاب مستقر‏}‏ يعني دائم استقر فيهم حتى أفضى بهم إلى عذاب الآخرة ‏{‏فذوقوا عذابي ونذر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولقد جاء آل فرعون النذر‏}‏ يعني موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام‏.‏ وقيل‏:‏ النذر، الآيات التي أنذرهم بها موسى ‏{‏كذبوا بآياتنا كلها‏}‏ يعني الآيات التسع ‏{‏فأخذناهم‏}‏ يعني بالعذاب ‏{‏أخذ عزيز مقتدر‏}‏ يعني غالب في انتقامه قادر على إهلاكهم لا يعجزه عما أراد ثم خوف كفار مكة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 48‏]‏

‏{‏أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ ‏(‏43‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ ‏(‏44‏)‏ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ‏(‏45‏)‏ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ‏(‏46‏)‏ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ‏(‏47‏)‏ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏أكفاركم خير من أولئكم‏}‏ يعني أقوى وأشد من الذين أحللت بهم نقمتي مثل قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وآل فرعون وهذا استفهام إنكار، أي، ليسوا بأقوى منهم ‏{‏أم لكم براءة‏}‏ يعني من العذاب ‏{‏في الزبر‏}‏ أي في الكتب أنه لن يصيبكم ما أصاب الأمم الخالية ‏{‏أم يقولون‏}‏ يعني كفار مكة ‏{‏نحن جميع‏}‏ يعني أمرنا ‏{‏منتصر‏}‏ يعني من أعدائنا والمعنى‏:‏ نحن يد واحدة على من خالفنا منصرون ممن عادانا‏.‏ ولم يقل منصرون لموافقة رؤوس الآي‏.‏ وقيل‏:‏ معناه نحن كل واحد منا منتصر كما يقال‏:‏ كلهم عالم، يعني‏:‏ كل واحد منهم عالم‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏سيهزم الجمع‏}‏ يعني كفار مكة ‏{‏ويولون الدبر‏}‏ يعني الأدبار فوحد لأجل رؤوس الآي‏.‏ وقيل في الإفراد، إشارة إلى أنهم في التولية والهزيمة كنفس واحدة، فلا يتخلف أحد عن الهزيمة ولا يثبت أحد للزحف فَهُمْ في ذلك كرجل واحد ‏(‏خ‏)‏‏.‏

عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في قبة يوم بدر «اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك اللهم إن شئت لم تعبد بعد هذا اليوم أبداً فأخذ ابو بكر بيده فقال‏:‏ حسبك يا رسول الله فقد ألححت على ربك فخرج وهو في الدرع وهو يقول‏:‏ سيهزم الجمع ويولون الدبر» ‏{‏بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر‏}‏ فصدق الله وعده وهزمهم يوم بدر‏.‏

وقال سعيد بن المسيب‏:‏ سمعت عمر بن الخطاب يقول‏:‏ لما نزلت سيهزم الجمع ويولون الدبر‏:‏ كنت لا أدري أي جمع يهزم، فلما كان يوم بدر، رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يثب في درعه ويقول‏:‏ سيهزم الجمع ويولون الدبر فعلمت تأويلها ‏{‏بل الساعة موعدهم‏}‏ يعني جميعاً والساعة أدهى وأمر، أي أعظم داهية وأشد مرارة من الأسر والقتل يوم بدر‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إن المجرمين‏}‏ يعني المشركين ‏{‏في ضلال وسعر‏}‏ قيل في بعد عن الحق وسعر أي نار تسعر عليهم‏.‏

وقيل‏:‏ في ضلال في الدنيا ونار مسعرة في الآخرة‏.‏ وقيل‏:‏ في ضلال، أي عن طريق الجنة وسعر أي عذاب الآخرة ثم بين عذابهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏يوم يسحبون‏}‏ أي يجرون ‏{‏في النار على وجوههم‏}‏ ويقال لهم ‏{‏ذوقوا مس سقر‏}‏ أي ذوقوا أيها المكذبون لمحمد صلى الله عليه وسلم مس سقر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 51‏]‏

‏{‏إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ‏(‏49‏)‏ وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ‏(‏50‏)‏ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ‏(‏51‏)‏‏}‏

‏{‏إنا كل شيء خلقناه بقدر‏}‏ أي مقدور ومكتوب في اللوح المحفوظ‏.‏ وقيل‏:‏ معناه قدر الله لكل شيء من خلقه قدره الذي ينبغي له‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ كل شيء بقدر حتى وضعك يدك على خدك‏.‏

‏(‏فصل في سبب نزول الآية وما ورد في القدر وما قيل فيه‏)‏

‏(‏م‏)‏ «عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ كتب الله مقادير الخلائق كلها قبل أن يخلق السموات والأرض وخمسين ألف سنة» قال وعرشه على الماء ‏(‏م‏)‏‏.‏

عن أبي هريرة قال‏:‏ «جاء مشركو قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر فنزلت هذه الآية ‏{‏إن المجرمين في ضلال وسعر‏}‏ إلى قوله ‏{‏إنا كل شيء خلقناه بقدر‏}‏ ‏(‏م‏)‏ عن طاوس قال‏:‏ أدركت ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون‏:‏ كل شيء بقدر الله تعالى قال‏:‏ وسمعت عبد الله بن عمر يقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ كل شيء بقدر حتى العجز والكيس أو الكيس والعجز»‏.‏

عن علي بن أبي طالب قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع‏:‏ يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني بالحق، ويؤمن بالموت، وبالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر» أخرجه الترمذي‏.‏ وله عن جابر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه» وقال‏:‏ حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن ميمون وهو منكر الحديث‏.‏ وفي حديث جبريل المتفق عليه‏:‏ وتؤمن بالقدر خيره وشره‏.‏ قال‏:‏ صدقت ففيه ذم القدرية‏.‏

عن حذيفة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لكل أمة مجوس ومجوس هذه الأمة الذين يقولون لا قدر من مات منهم فلا تشهدوا جنازته ومن مرض منهم فلا تعودوه وهم من شيعة الدجال وحق على الله أن يلحقهم بالدجال»‏.‏

أخرجه أبو داود وله عن أبي هريرة مثله «وزاد فلا تجالسوهم ولا تفاتحوهم في الكلام»‏.‏

وعن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب‏:‏ المرجئة والقدرية» أخرجه الترمذي وقال‏:‏ حديث حسن غريب‏.‏

وروى ابن الجوزي في تفسيره عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة أمر منادياً فينادي نداء يسمعه الأولون والآخرون أي خصماء الله فتقوم القدرية فيأمر بهم إلى النار يقول الله ذوقوا مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر»‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وإنما قيل‏:‏ خصماء الله، لأنهم يخاصمون في أنه لا يجوز أن يقدر المعصية على العبد ثم يعذبه عليها‏.‏ وروي عن الحسن قال‏:‏ والله لو أن قدرياً صام حتى يصير كالحبل، وصلّى حتى يصير كالوتر، ثم أخذ ظلماً حتى يذبح بين الركن والمقام لكبه الله على وجهه في سقر ثم قيل له ذق مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر‏.‏ قال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله اعلم أن مذهب أهل الحق إثبات القدر ومعناه أن الله تعالى قدر الأشياء في القدم وعلم سبحانه وتعالى أنها ستقع في أوقات معلومة عنده سبحانه وتعالى وعلى صفات مخصوصة فهي تقع على حسن ما قدرها الله تعالى وأنكرت القدرية هذا وزعمت أنه سبحانه وتعالى لم يقدرها ولم يتقدم علمه بها وإنها مستأنفة العلم أي إنما يعلمها سبحانه وتعالى بعد وقوعها وكذبوا على الله سبحانه وتعالى عن أقوالهم الباطلة علواً كبيراً‏.‏ وسميت هذه الفرقة قدرية، لإنكارهم القدر‏.‏ قال أصحاب المقالات من المتكلمين‏:‏ وقد انقرضت القدرية القائلون بهذا القول الشنيع الباطل ولم يبق أحد من أهل القبلة عليه‏.‏ وصارت القدرية في الأزمان المتأخرة تعتقد إثبات القدر ولكن تقول الخير من الله والشر من غيره تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً‏.‏

وحكى أبو محمد بن قتيبة في كتابه غريب الحديث، وأبو المعالي إمام الحرمين في كتابه الإرشاد في أصول الدين، أن بعض القدرية قالوا‏:‏ لسنا بقدرية بل أنتم القدرية لاعتقادكم إثبات القدر‏.‏ قال ابن قتبية وإمام الحرمين‏:‏ هذا تمويه من هؤلاء الجهلة ومباهته وتواقح، فإن أهل الحق يفرضون أمورهم إلى الله تعالى‏.‏ ويضيفون القدر والأفعال إلى الله تعالى وهؤلاء الجهلة يضيفونه إلى أنفسهم ومدعي الشيء لنفسه ومضيفه إليها أولى بأن ينسب إليه ممن يعتقده لغيره وينفيه عن نفسه‏.‏

قال إمام الحرمين‏:‏ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «القدرية مجوس هذه الأمة» شبههم بهم لتقسيمهم الخير والشر في حكم الإرادة كما قسمت المجوس فصرفت الخير إلى يزدان والشر إلى أهرمن‏.‏ ولا خفاء باختصاص هذا الحديث بالقدرية‏.‏ وحديث‏:‏ القدرية مجوس هذه الأمة، رواه أبو حازم عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرجه أبو داود في سننه والحاكم أبو عبد الله في المستدرك على الصحيحين‏.‏ وقال‏:‏ صحيح على شرط الشيخين إن صح سماع أبي حازم عن ابن عمر وقال الخطابي‏:‏ إنما جعلهم صلى الله عليه وسلم مجوساً لمضاهاة مذهبهم مذهب المجوس لقولهم بالأصلين‏:‏ النور والظلمة يزعمون أن الخير من فعل النور والشر من فعل الظلمة فصاروا ثنوية وكذلك القدرية يضيفون الخير إلى الله والشر إلى غيره والله سبحانه وتعالى خالق كل شيء الخير والشر جميعاً لا يكون شيء منهما إلا بمشيئته فهما مضافان إليه سبحانه وتعالى خلقاً وإيجاداً وإلى الفاعلين لهما من عباده فعلاً واكتساباً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏52- 55‏]‏

‏{‏وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ ‏(‏52‏)‏ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ ‏(‏53‏)‏ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ‏(‏54‏)‏ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏وكل شيء فعلوه‏}‏ يعني الأشياع من خير وشر ‏{‏في الزبر‏}‏ أي في كتب الحفظة وقيل في اللوح المحفوظ ‏{‏وكل صغير وكبير‏}‏ أي من الخلق وأعمالهم وآجالهم ‏{‏مستطر‏}‏ أي مكتوب‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إن المتقين في جنات‏}‏ أي بساتين ‏{‏ونهر‏}‏ أي أنهار وإنما وحَّده لموافقة رؤوس الآي وأراد أنها الجنة من الماء والخمر واللبن والعسل‏.‏

وقيل‏:‏ معناه في ضياء وسعة ومنه النهار والمعنى لا ليل عندهم ‏{‏في مقعد صدق‏}‏ أي في مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم وقيل في مجلس حسن وقيل في مقعد لا كذب فيه لأن الله صادق فمن وصل إليه امتنع عليه الكذب فهو في مقعد صدق ‏{‏عند مليك‏}‏ قيل معناه قرب المنزلة والتشريف لا معنى المكان ‏{‏مقتدر‏}‏ أي قادر لا يعجزه شيء وقيل مقربين عند مليك أمره في الملك والاقتدار أعظم شيء، فلا شيء إلا وهو تحت ملكه وقدرته فأي منزلة أكرم من تلك المنزلة وأجمع للغبطة كلها والسعادة بأسرها‏.‏ قال جعفر الصادق‏:‏ وصف الله تعالى المكان بالصدق، فلا يقعد فيه إلا أهل الصدق، والله أعلم بمراده وأسرار كتابه‏.‏